close
          


روايه فوق جبال الهوان

الفصل الاول 

بقلم منال سالم



الصرخات الموجعة المنبعثة منها، أثناء استلقائها على ذلك الفراش القديم، في هذه الغرفة شبه المعتمة، رغم سطوع شمس النهار، جعلت من حولها يرتاع ويقلق، حتى صوت الموسيقى الصاخب لم يكن كافيًا للتغطية على أنات ألمها المتواصلة، كذلك تعذر على حفنة النساء المتواجدات معها إرسال أحدهم لاستدعاء الطبيب من أجلها، بالطبع لم يكن أيضًا من المتاح نقلها إلى أقرب مشفى وإن كان متواضعًا تنقصه الإمكانيات لإسعافها، فكيف لها أن تجيب من يديروه على أبسط الأسئلة لتفسير حالتها تلك؟



المعادلة صعبة بكافة المقاييس، ومع ذلك تحملت كل تلك الآلام العنـــــيــفة على أمل رؤية وليدها وحمله بين ذراعيها، لم تتوقع “وِزة” –صاحبة هذا الاسم الدارج والذي تُنادى به ولا تعرف سواه منذ أن كانت طفلة واعية- أن تصيبها آلام المخاض في هذا الوقت المبكر، فقد دخلت في حالة وضع مفاجئة منذ مطلع النهار، وأصبح الجميع متأهبًا لمساعدتها حسبما ظنت.

تم إيقاف كافة الأنشطة بالمنزل ريثما تنتهي من ولادتها المتعسرة، فمن ذا الذي سينعم بالدلال والتدلل وهو يصغي إلى مثل هذه الأصوات المزعجة؟

في تعبيرٍ متجهم، وغير راضٍ، جلست امرأة خمسينية العمر –تسمى “توحيدة” على أريكة تتسع لأربعة أفرادٍ مجتمعين، ودخان النارجيلة ينبعث من بين شفتيها في دفعات قصيرة متتالية، تساءلت إحداهن من خلفها في توترٍ:

-هنعمل إيه يا أبلتي؟ ده صويتها جايب التايهين!

ردت عليها من تتسيد المنزل بأسره، وتتحكم في شأن جميع من فيه بجمودٍ:

-ولا حاجة، هنستنى لما تفضي اللي في بطنها، وبعد كده هتصرف.



سألتها في نبرة متوجسة، وعلامات القلق تزداد على وجهها:

-طيب وأهل الحتة؟

تصعَّبت بشفتيها قبل أن تقول بغير مبالاة، ويدها الأخرى الفارغة موضوعة أعلى جبينها:

-اللي ليه عندي حاجة يجي ياخدها!

صرخة المولود أكدت تمام عملية وضعه رغم صعوبتها، فأتت إحداهن مهرولة من الداخل لتقول في لهاثٍ:

-“وِزة” ولدت يا أبلتي، وجابت حتت واد إنما إيه فلقة قمر.

لم تبتسم “توحيدة” وهي تأمرها:

-هاتيه من عندها، ونادي على الواد “حمص” يجيلي حالًا.

تساءلت المرأة التي تقف خلفها في استرابةٍ:

-عايزاه ليه يا أبلتي؟

ردت بغلظةٍ:

-ملكيش فيه، إنتي تعملي اللي يطلب منك وإنتي ساكتة.

في التو أظهرت طاعتها لها قائلة:

-عينيا يا ست الكل، اللي تؤمري بيه هيتنفذ.

نهضت بعدها “توحيدة” من موضع جلوسها، وألقت بمبسم النرجيلة أرضًا، لتسير في تباطؤٍ، تاركة لحم جسدها الممتلئ والمترهل يرتج على الجانبين مع كل خطوة تتحرك بها. مشت عبر رواق المنزل الممتد بشكلٍ مستطيل حتى وصلت إلى آخر غرفة موجودة في نهايته، وحينما أبصرتها النساء اللاتي يرتدين ملابس تنوعت ما بين الكاشفة والعادية تحركن للجانب لتمر بينهن في شموخٍ وقوة. استطاعت سماع همساتهن الحائرة عن مصير الأم ورضيعها، فزادها ذلك الشعور بالتسيُّد والسلطة.



تساءلت “وِزة” في صوتٍ واهن، وهي لا تزال طريحة الفراش، ومضرجة في دمــــاء ولادتها:

-ابني فين يا ست “توحيدة”؟

في قسوة غريبة أجابت على سؤالها بآخر:

-مش ركبتي دماغك، وعملتي اللي كان نفسك فيه؟!!

انتابها الخوف أضعافًا مضاعفة، وسألتها بقلبٍ وجل:

-قصدك إيه؟

ظلت على قساوتها المخيفة حينما جاوبتها بما جعل دواخلها تتمزق:

-اعتبريه مـــــــــات!

هنا انتفضت صارخة رغم الألم الشديد الذي ما زال يغمرها:

-حرام عليكي يا ست “توحيدة”، ليه تعملي كده فيا؟

علقت في تهكمٍ أشد قسوة:

-ما هو أصلًا جاي من حرام، ولا نسيتي نفسك يا “وِزة”!!

أزاحت الملاءة المُتـــسِخة بدمائها، لتنهض في ضعفٍ من رقدتها، لم تسعفها قدماها، وسقطت أرضًا، ومع ذلك لم تجرؤ إحداهن على تقديم المساعدة لها، الكل وقفن يراقبن المشهد في حيرةٍ مشوبة بالخوف. زحفت على قوائمها الأربع لتتجه إليها تتوسل رحمة منزوعة منها:



-بالله عليكي ما تحرمنيش منه، أنا هربيه، وهخليه خدام عندك، رهن إشارتك، بس سبيهولي.

انتشلت “توحيدة” قدمها من تحت يديها المتمسحتين فيها، وقالت في جمودٍ، وبلهجة خالية من الرأفة:

-مكانش يتعز يا عين أمك، اِقري عليه الفاتحة.

انفلتت منها صرخة مقهورة عاجزة، وراحت ترجوها ببكاءٍ حـــارق:

-ده لسه حتت لحمة حمرا، أبوس رجلك يا ست “توحيدة” ترحميه.

وكأنها لا تملك قلبًا لتتعاطف مع دموعها الأمومية الصادقة، أخبرتها بلهجتها القاسية:

-أنا بعمل لمصلحتك، أما ترتاحي منه دلوقت، أحسن ما تتعلقي بيه، وساعتها وجعك هيكون أكبر، وبعدين اعتبري نفسك سقطتي.

كلماتها هبطت عليها كالســــوط اللاذع، لم تأخذها بها شفقةٍ أو رحمة، خاصة حينما أضافت في تهديدٍ:

-وده درس ليكي ولغيرك، إن أي واحدة فيكم تستجري تخالف أوامري، يبقى تستحمل أذايا، ما أنا قرصتي والقــــبـــر!

من جديد زحفت تجاهها تستجديها بحــــرقةٍ أكبر لعل وعسى تعدل عن قرارها الشـــــرس، بل الأشد شــــــراســـــة على الإطلاق:



-الله يخليكي يا ست “توحيدة”، هعملك كل حاجة وأي حاجة، بس سبيه يعيش، أنا معنديش حد في الدنيا إلا هو!

هذه المرة ركلتها في بطنها المبتـــــور بعنفٍ قبل أن تأمر النسوة المتزاحمات بالغرفة:

-جرى إيه يا ولية منك ليها، واقفين تتفرجوا، وسايبن الشغل اللي وراكم، يالا المولد اتفض.

سرعان ما اِستجبن إلى أمرها الصارم، وخرجن من الغرفة تباعًا، تاركين الأم المكلومة تبكي فقدان رضيعها قبل أن تضمه إلى صدرها، لتقوم بلطم وجهها بكفيها بلطمـــات عنيفة متتالية، وهي لا تزال تصرخ بعجزٍ وحسرة أمام من تنظر إليها باستحقارٍ وقوة!

جاءت إليها “خضرة”، من تتبعها كظلها، وتحرص على التأكد من تنفيذ كافة أوامرها في غيابها قبل حضورها، لتنظر بشيءٍ من التعاطف والأسى لـ “وِزة”، ثم تساءلت وعيناها لم تحيدا بعد عن هذه التعيسة المفجــــوعة:

-كله تمام يا أبلتي؟

-خديها، خلوهم يحموها وينضفوها، وادوها حاجة تاكلها وتخليها تقف على حيلها، بدل ما هي زي الدبيــــــحة اللي بتطلع في الروح.



من بين نهنهات بكائها الصاخبة، توسلتها مجددًا:

-ابني يا ست “توحيدة”، أبوس رجلك، بلاش تحرميني منه.

تحركت تجاه الباب، وقالت دون أن تنظر ناحيتها:

-اقريله الفاتحة.

القسوة التي كانت عليها استثارتها أكثر، وجعلتها تهتاج، فراحت تصيح حتى بح صوتها:

-حرام عليكي، ليه بتعملي كده.

أقبلت عليها “خضرة” لتكتم أنفاسها محذرة إياها بصوتٍ خفيض:

-اسكتي بدل ما توديكي عن اللي ما يتسموا، وإنتي مش أدهم!

كانت فاقدة لزمام أمرها، فلم يكن أمامها سوى البكاء والعويل بحـــرقةٍ، وهي تعلم تمام العلم أنها لن تؤثر مهما استجدت وتوسلت في مشاعر أي واحدة من قاطني هذا المنزل اللعــــــــين.

حمل عنها حقيبتها الصغيرة، وعلقها على كتفه، ليسير معها بخطواتٍ شبه متعجلة عبر الطرقات الضيقة والأزقة، فقد انتهى بهما المطاف بعد ساعات من استقلال عربة القطار إلى هذا الحي البعيد بتلك المدينة النائية عن بلدتها. لم تتوقع “مروة” أن يكون مستوى المعيشة هنا متدنيًا، فبناءً على ما أخبرها به سابقًا، من المفترض أنه يعيش في منطقة راقية، بها مظاهر الترف والراحة؛ لكنها رأت عكس ما وصف تمامًا. سألته بقلبٍ متوجس وهي تدير رأسها لتنظر إليه:



-هو احنا هنا فين كده؟

أجابها وهو يدفعها برفقٍ للولوج إلى داخل مدخل هذه العمارة القديمة:

-عند ناس معارفنا.

توقفت فجأة وعلامات الدهشة قد تجسدت على تعابير وجهها، نظرت إليه في شكٍ، وسألته بقلبٍ راحت نبضاته تتصاعد خوفًا وتوجسًا:

-إيه ده؟ مش إنت قولتلي هتاخدني عند أمك؟

برر لها بكذبةٍ غير مقنعة:

-مش هينفع دلوقت، لازمًا أمهدلها الأول، خلي الليلة تسلك وتمشي للآخر.

حاول دفعها برفقٍ لإجبارها على الصعود على سلم الدرج، وهو لا يزال يُحادثها في وديةٍ:

-وبعدين أنا موديكي عند ناس حبايبي جدًا.

ما زالت ترفض التجاوب معه لشكوكها المتزايدة، وسألته في قلقٍ أكبر:

-هي متعرفش عن موضوعنا ولا إيه؟

اضطر للف ذراعه حول كتفيها ليحاوطها، واستمر في دفعها بترفقٍ نحو السلم، وصوته يهمس بالقرب من أذنها:

-يا بت هي عندها خبر وكل حاجة، بس علشان نتجوز كده خبط لزق صعب اليومين دول.



مدفوعة بواسطته، بدأت في الصعود على الدرج، وهي تسأله:

-لما هو صعب طلبت مني أجي معاك ليه؟

تنهد مليًا قبل أن يخبرها متصنعًا الحزن:

-ما أنا مش هطول، على الأقل أجيب أوضة نوم جديدة، وأنا يدوب حوشت نص فلوسها.

مجددًا توقفت عن الصعود، واستطردت:

-أنا راضية أنام على فَرشة قديمة، بس نكون سوا، وفي الحلال.

ابتسم مؤكدًا لها:

-هيحصل، الحكاية كلها أسبوع ولا اتنين…

راح يستحثها من جديد على الصعود متابعًا حديثه إليها:

-وبعدين هو أنا وعدتك بحاجة وكدبت عليكي فيها؟

ردت نافية:

-لأ.

أضاف في جديةٍ:

-ده أنا حتى كنت بحوش فلوسي معاكي، ومكونتش بسرقك.

أخبرته بملامح وجهٍ مشدودة:

-وأنا حافظت على الأمانة.



ابتسم في خبثٍ قبل أن يخبرها:

-وده كان اختباري ليكي، اللي تصون مالي، هتصون عرضي.

وكأنه يعلم جيدًا كيف يستغل سذاجتها، وافتقارها للخبرة، ليخدعها، ويوقعها أكثر في شباكه، فما كان منها إلا أن واصلت السقوط في بئر الهاوية، لتجد “مروة” نفسها أمام باب منزل انقبض قلبها لمجرد رؤيته، وما عزز من هذا الشعور المخيف قوله الغامض:

-تعالي احنا وصلنا.

……………………………………..

دق بأصابعه على الزجاجِ المُغبش، بعدما قرع الجرس مرتين، ليأتيه صوتًا أنثويًا مألوفًا من الداخل يبلغه بالانتظار والصبر، ريثما تقوم بفتح الباب. تطلعت “خضرة” إلى ضيفيها بنظرات شاملة فاحصة، ليأتي سؤال “بُغدادي” في جديةٍ توافقت مع ملامح وجهه:

-الست “توحيدة” موجودة؟

تحولت بناظريها تجاه تلك الشابة المرتجفة في نفسها، وسألته بشكلٍ تقليدي مستهلك:

-أيوه، بس إنت مش لواحدك؟

غمز لها بطرف عينه مرددًا:



-لأ، معايا أمانة.

صدح صوت “توحيدة” من الداخل في صيغة متسائلة:

-مين يا “خضرة”؟

من موضع وقوفها أجابت عليها بنبرة مرتفعة لتضمن سماعها لها:

-ده الواد “بُغدادي” يا أبلتي.

استغربت “مروة” من طريقة تلفظها لهذا اللقب، وحاولت مغالبة ما يعتريها من مخاوف وتوتر. على نفس الوتيرة العالية نادته “توحيدة” من الداخل:

-تعالى يا واد.

أمسك “بغدادي” بمعصم فريـــــســـته الجديدة، وجرها معه إلى الداخل قبل أن تقوم “خضرة” بإغلاق الباب بالمفتاح والمزلاج، وكأنها تضمن بذلك عدم قدرة تلك المخدوعة على الهروب من وكر صاحبة هذا المكان. لم يكن أمام “مروة” سوى الإذعان لما يريده منها من يُعد مجازًا المسئول عن شأنها، ألقت نظرة خاطفة على البيت، كان وضعه مريبًا، أثاثه رغم قدمه يوحي بأشياءٍ لا تحبذ التفكير فيها، تشتت عن الاستغراق في أفكارها الحائرة عندما تكلمت هذه المرأة الغريبة بلهجةٍ بدت مُقلقة إلى حدٍ كبير:



-بقى تهون عليك العِشرة يا قليل الأصل، تاخد في وشك بالشهور وتقول عدولي؟!

علل “بُغدادي” غيابه قائلًا، وقد أدار يده خلف مؤخرة رأسه ليحكها بعدما ألقى بالحقيبة أرضًا:

-لزوم الشغل يا سِتنا.

بنظرة تبدو كعدسة المجهر، جالت “توحيدة” بها على ضيفتها المرتاعة من رأسها لأخمص قدميها، كانت ذات بشرة خمرية، وتمتلك زوج أعين بنية اللون، وفم واسع، وأنف دقيق، لم تتوقف عن فحصها ظاهريا، وتساءلت وهي تلوك العلكة في جوفها بصوتٍ مسموع، وطريقة مقززة:

-مين الحلوة اللي معاك؟

أشار بيده ناحيتها قائلًا في نبرة متباهية:

-إيه رأيك؟ حاجة بكرتونتها، على أبوها!

كلماته الغريبة وطريقة وصفه الأغرب جعلتها ترتاب أكثر في شأنه، وما زاد من هذا الشعور المخيف بداخلها تعليق هذه المرأة الغامضة:

-شكلها باين، أهي دي تجيب رجل الزبون اللي يحب التجديد.

قصف قلبها بارتعابٍ أكبر، وشحب لون وجهها مما تسمعه وتراه، لوهلةٍ ظنت أنها تعايش كابوسًا مؤقتًا، سينتهي بمجرد أن تستيقظ من نومها؛ لكنها ليست الحقيقة، إن ما تختبره الآن واقعًا ملموسًا، وهي طرف متورط فيه، بل إنها محور كل شيء يجري هنا.



تساءل “بغدادي” في لؤم وهو يفرك كفيه معًا:

-أستاهل نفحة؟

أطلقت “توحيدة” ضحكة رقيعة عالية، لتقول بعدها في شيءٍ من الذم:

-مصلحجي طول عمرك.

ما زالت “مروة” على حالتها المصدومة تلك، لا تصدق ما تسمعه بأذنيها، وما أكد صدمتها المُوجعة التي كانت كطعــــنـــة غادرة في منتصف قلبها قوله المتفاخر:

-مش برجعلك باللي يرضيكي.

لم تعد تتحمل “مروة” ما يجري، كل ما يدور يصيبها بالرعب والرهبة، لهذا قررت التخلي عن جمودها لتتساءل:

-مين دول يا “بغدادي”؟

تولت مُضيفتها الإجابة عنه بقولها المتعجرف وهي ترفع ساقها لتثنيها وتضعها على أريكتها، حتى تستند بمرفقها على ركبتها هذه:

-أنا ستك “توحيدة” يا حلوة.

تجاهلتها تمامًا، وتحدثت إلى من جاء بها إلى هذا المكان الباعث على كل ما هو مخيف في عصبيةٍ مشوبة بالتوتر:

-أنا عايزة أمشي من هنا.



من ورائها تكلمت “خضرة” في لهجة ساخرة:

-هو دخول الحمام زي خروجه؟

التفتت “مروة” لتنظر ناحيتها بنفورٍ قبل أن تعاود توجيه سؤالها إليه في حمئة، وهي تمسك به من ذراعه:

-فهمني يا “بُغدادي” مين دول؟

نفض قبضتها عنه بقوةٍ، فانصدمت أكثر من تصرفه غير المتوقع، ليأتي بعد ذلك قوله:

-أنا كده عملت اللي عليا، سلام.

في التو انتفضت متحركة تجاهه لتعترض طريقه، أمسكت به من كلا ذراعيه، وراحت تصرخ فيه:

-استنى هنا، إنت سايبني ورايح فين؟

استخدم نفس الأسلوب الخشن في إبعاد يديها عنه مرددًا بجمودٍ، وعيناه تتطلعان إليها بنظرة متجافية خالية من أي مظهر للحب أو حتى الشفقة:

-هما هيفهموكي الحوار ماشي إزاي.

رفضت تركه يمضي لحال سبيله؛ لكن “خضرة” تدخلت لمنعها من اللحاق به، فتمكن من المغادرة، ورحل من الباب الآخر للمنزل، ذلك الذي لا تعلم عنه شيئًا، لتظل هي محاصرة بين جدران هذا المكان. ما لبث أن تغلب حنقها على خوفها لتصيح بتصميمٍ وقد تخلصت من يدي “خضرة” المحتجزتين لها:



-أنا استحالة أفضل هنا، لازم أمشي مع “بُغدادي”.

مرة ثانية ضحكت “توحيدة” بطريقة مستفزة قبل أن تخاطبها بما جعل الدماء تفر من عروقها:

-هو إنتي لسه معرفتيش حقيقته؟

قالت وهي تجاهد للتغلب على رعشة بدنها الخفيفة:

-حقيقة إيه؟

استرخت الأخيرة أكثر في جلستها، واسترسلت بعدما تصعبت بشفتيها:

-بصي يا حلوة، الواد “بُغدادي” شغلته إنه يجيب الحلوين المغفلين اللي زيك عندي، ده طبعًا بعد ما يوقعهم في حبه، ويفهمهم إنه هيتجوزهم، ويخليهم يهربوا من بيوت أهاليهم زي العُبط، ويسلمهم ليا، وأنا بقى أوضبهم وأسنجفهم علشان يليقوا بزباينا…

برزت عيناها في صدمة عظيمة، لتُضاعف من إحساسها بالحسرة والخذلان بإضافتها:

-ولو بت ناصحة من دول وعجبت رجالتنا، بياخدها يشغلها في كباريه كده، وجايز تطلع في كليب من ضمن البنات اللي بترقص.

هللت “خضرة” في انتشاءٍ سعيد:

-ودي تبقى من التوب واللي الحظ ماسك في ديلها يا أبلتي.



راحت “توحيدة” تشير بعدها بكفيها وهي تتكلم:

-وياما وصلت بإيدي دول بنات وقيع لسلم الشهرة والمجد.

أشادت تابعتها المؤدية لها قولًا وفعلًا بما تقوم بها هاتفة:

-فيكي الخير يا أبلتي.

استوعبت “مروة” أخيرًا حجم الكارثة التي حلت بها، فأطلقت صيحة غاضبة، وقد انتفض كل ما فيها للابتعاد عن هذا البيت المـــلعون:

-أنا استحالة أفضل هنا، المـــــوت أهون عليا من اللي هيحصلني لو استنيت للحظة.

استخدمت “خضرة” قوتها لإيقافها، وهتفت في ضيقٍ:

-شكلك مش ناوية تجي بالذوق.

من الخلف حذرتها “توحيدة” في هدوءٍ عجيب، وعلى وجهها نظرات التسلية والاستمتاع:

-بالراحة يا “خضرة”، هي لسه مستجدة، مالهاش في اللون.

اكتفت فقط بدفعها تجاه ربة عملها مرددة:

-أوامرك يا أبلتي.

كورت “مروة” يدها لتضرب بقبضتها على ذراعها، فتجربها على إفلاتها، وهي لا تزال تصرخ بها:



-شيلي إيدك من عليا لأقطعهالك.

أوجعتها ضرباتها الخرقاء، فاستُفزت على الأخير، وردت في شماتةٍ وحقد:

-جاية تعملي شريفة عليا أنا؟ ده إنتي يا بت مضحوك عليكي من واد مدورها ليل نهار.

توالت عليها الصدمات كالصواعق الكهربية، فبكت قهرًا وكمدًا، ومن الوراء “توحيدة” تهتف بنفس النبرة المستمتعة:

-خديها على الهادي يا “خضرة”، الصدمة لسه كبيرة عليها.

شحذت “مروة” قوى غضبها مما حدث لها، واستخدمتها في التخلص من تلك المرأة السمجة التي ترفض تركها، وصاحت بإصرارٍ معاند:

-أنا مش هفضل هنا ثانية واحدة..

ثم راحت تضربها بقوة أكبر في صدرها، ومعدتها، فتأوهت “خضرة” من الألم، واضطرت في النهاية لتحريرها، لتدفعها “مروة” جانبًا وهي تندفع بخطواتٍ راكضة تجاه الباب صائحة فيها:

-أوعي من سكتي.

تمكنت من إدارة المفتاح في قفل الباب، ومن نزع المزلاج، لتقوم بفتحه؛ لكنها تفاجأت بأحدهم يسد عليها مهربها الوحيد، كان ضخم الجثة، أسمر اللون، ذي ملامح خبيثة، بوجهه ندوب متفرقة جراء مشاجراته الدائمة، عيناه لا توحيان سوى بالشر المستطير. تسمرت في موضعها مندهشة من رؤيته، ارتاعت من احتمالية تعرضها للإيذاء على يده. في التو لحقت بها “خضرة” لتجد ضيفها حاضرًا بغير ميعادٍ مسبق كعادته دومًا، فهتفت تناديه باسمه:



-معلم “عباس”!

لم يبعد الأخير نظراته الفضولية عن وجه تلك الشابة غير المألوف عليه، وسألها في صوتٍ أجش:

-في إيه يا بت؟ صوتك مسمع ليه برا؟

تجاهلته، وحاولت المرور لتجاوزه؛ لكنه قبض على ذراعها بقوةٍ، ودفعها دفعًا للعودة إلى الداخل، فصرخت في ألمٍ:

-ابعد عني.

استغلت “خضرة” فرصة تواجده لتستنجد به:

-حوشها يا معلم، ده أنا بوضبها لكوبارتنا، حتة جديدة نقاوة الست “توحيدة”، وفرز أول كمان.

ظهرت أمارات الاستحسان على تعبير وجهه، فقال في حبورٍ وهو لا يزال قابضًا على ذراعها:

-إن كان كده يبقى ديتها عندي.

بذلت “مروة” كل جهدها للتحرر منه؛ لكنه ضربها بقــــســــوة على مؤخرة عنقها، في بقعة معينة، ليفقدها الوعي في الحال، ارتخى بدنها على ذراعه، فظل ممسكًا بها وهو يتحدث في صوته المتحشرج الخشن:

-نادي على النسوان اللي جوا ياخدوها، بدل ما هما عاملين زي البهايم، أكل ومرعى وقلة صنعة.

هتفت “خضرة” في طاعة:



-عينيا.

في أقل من لحظاتٍ عادت ومعها ثلاثة من نساء هذا البيت، تعاونت جميعًا في حمل جسدها، ونقلها إلى داخل إحدى الغرف، بينما أتت “توحيدة” لترحب بضيفها العزيز في حفاوة شديدة:

-اتفضل يا سيد المعلمين، مطرحك ومكانك.

جلست مجاورًا لها على الأريكة، وأمسك بمبسم النارجيلة ليسحب نفسًا عميقًا منها، قبل أن يتلفظه على دفعاتٍ وهو يخبرها:

-عايزك تظبطيلي مزاجي، لأحسن طالع عيني الأيام اللي فاتت.

وضعت “توحيدة” قبضتيها الممتلئتين على كتفيه لتدلكهما في نعومةٍ ورفق، وراحت تخاطبه بصوتٍ متدلل:

-بكرة الكبير يخرج ويريحك.

نفث دفقة أخرى من الدخان الكثيف في الهواء قائلًا:

-أديني مستني اليوم ده من زمان.

أطلقت ضحكة عالية فرحة، قبل أن تضيف في نشوةٍ:

-خلي التعابين تتلم وتخش جحورها.

……………………………………..



حسب الاتفاق المسبق، استسلم حقيبة سفرٍ قماشية قديمة، عند مكب النفايات العمومي، والموضوع بداخلها الرضيع النائم، ليتحرك بعدها مباشرة لمقابلة أحدهم بعدما خابره هاتفيًا، للقائه في بقعة أخرى مهجورة، ليعطيه إياه. خشي “حمص” من استيقاظ المولود، فيلفت بصوت صراخه الأنظار إليه، لهذا حرص كل الحرص على السير في أماكن تخلو من المارة، ولا يتواجد بها إلا الباحثين عما يُذهب العقل، وينسي الهموم بالأوهام والضلالات الخداعة.

ظل مكللًا بتوتره إلى أن جاء إليه هذا الشقي المشاغب، المعتاد على ممارسة كافة أنواع الإجـــــرام، والمُلقب بـ “سِنجة”، نظرًا لمهاراته غير العادية في استخدام المِـــــطواة في قتـــــالات الشوارع العنــــــــيفــة وإصابة خصومه بإصــــابات مباشرة ومُمِيــــتة. نفث دخان سجائره متسائلًا، قبل أن يتحسس الندبة البارزة في صدغه الأيمن:

-معاك اللفة؟

ناوله الحقيبة قائلًا:

-أيوه.

أخذها منه، وفتح السحاب ليلقي نظرة خاطفة على ما فيها، قبل أن يعاود إغلاقها طارحًا سؤاله التالي:



-والفلوس؟

دس يده في جيبه ليخرج رزمة مطوية من النقود، أعطاها له مرددًا:

-خد.

نظر إلى المال محتجًا بوجهٍ عابس:

-مش قليل ده؟

أخبره “حمص” بجديةٍ:

-ده النص بالنص.

على مضضٍ وضع النقود في جيبه مبديًا سخطه:

-لولا إنها تخص الست “توحيدة” مكونتش عملت معاك الواجب.

عقب عليه غامزًا بطرف عينه:

-ما إنت عارفها اللي يخدمها في حاجة بتدلعه.

يبدو أنه اقتنع بالصفقة، ولم يجادل كثيرًا؛ لكنه استطرد في شيءٍ من التحذير المشوب بالريبة:

-إياكش بس المعلم “عباس” مايخدش خبر، ساعتها هيلهف الفلوس كلها.

أكد له “حمص” بما لا يدع مجالًا للشك:

-من جهتي أنا مش هجيب سيرة.

أعلمه بمشاركته نفس القرار:

-وأنا شـارحه.

همَّ “حمص” بالمغادرة، فقال وهو يلوح بيده:



-أما تخلص إديني التمام.

ابتسم في انتشاءٍ قبل أن يرد:

-بالصوت والصورة يا صاحبي.

افترق الاثنان، كلًا في اتجاه مغاير، ليقوم بعدها “سِنجة” بتبديل الحقيبة القماشية بكيس بلاستيك أسود اللون، ووضع الرضيع بداخلها بعدما أحكم لفه في قطعة قماشية، لم يكترث إن كانت ستطبق على أنفاسه ويخـــتــــنق بها أم لا، فمهمته محددة؛ محو أثره من الوجــــــود.

……………………………………

على أطراف تلك المدينة النابضة بالحياة والعامرة بسكانها، تحديدًا بعد منطقة المقابر، وقبل الخلاء الشاسع الفاصل بين الحضر والصحراء الممتدة، تواجدت بُقعة نائية، معزولة عن العمران، رغم توافر كل المرافق والخدمات الأساسية بها، إلا أنها كانت قصيّة، منفية، أو بالأحرى منسية، تحكمها قوانين ونفوذ أحدهم فقط، دونًا عن البقية، بالقرب من محيط التَبَّة العالية.

شردت بنظراتها القلقة من عينيها –ذات اللون العسلي- تراقب الطرقات المؤدية إليها، فقد كانت الملاذ الوحيد المتاح لعائلتها بعدما انهارت بنايتهم، وأصبحوا بلا مأوى، الاختلاف في مستوى المعيشة والثقافة جعلها أكثر اضطرابًا وتوترًا، فهي لم تطأ مثل هذه المناطق الشعبية المتدنية من قبل، رغم قيام الحكومة بالتعاون مع الجمعيات الأهلية ببنائها للمساعدة في حل أزمة الإسكان، بل إنها كانت تسخر من الأفلام التي تجسد وجودها، والآن باتت رغمًا عنها جزءًا منها. التفتت “دليلة” ناظرة إلى والدتها الجالسة بجوارها في المقعد الخلفي بسيارة الأجرة عندما خاطبت والدها الماكث في المقدمة تسأله:



-فاضل كتير يا “فهيم” عقبال ما نوصل؟

أدار رأسه لينظر ناحيتها قائلًا بتحيرٍ:

-مش عارف…

ثم وجه سؤاله إلى السائق:

-قدامنا أد إيه أسطى؟

بعد زفرة مسموعة، تنم عن تبرمه وشكواه وضيقه من اختياره دونًا عن غيره للقيام بتوصيلهم، أجاب:

-خلاص يا حاج، كلها 5 دقايق، وأوديكم عند العنوان…

قبل أن يفكر “فهيم” في قول شيء آخر، أنذره السائق مشيرًا بيده:

-بس مش هعرف أخش جوا، الشوارع ضيقة، والعربية مش هتعرف تطلع، ده غير إنها حتة كل اللي فيها لَبَط.

وكأنه يبث الشعور بالراحة والأمان في نفوسهم عقب جملته تلك، رددت “عيشة” من ورائه في توجسٍ، وفي نوعٍ من السخرية المتوارية:

-الله يطمنك يا ابني.

مالت “دليلة” على والدتها تخاطبها في صوتٍ خافت، شبه لائم:

-ما كنا روحنا مكان تاني يا ماما؟ إيه اللي يجبرنا على كده؟



ردت عليها بنفس النبرة الخفيضة، آملة في إقناعها بعدم إثارة المشاكل في الوقت الراهن:

-ده وضع مؤقت، لحد ما أبوكي يظبط أموره، وماتنسيش هو شريك في فرن العيش اللي هناك، أهوو القرشين اللي يطلعوا منه، نحوشهم لحد ما ربنا يعدلهالنا ونمشي.

لم تحبذ ما فرضته عليها، وبرطمت في همسٍ:

-ليها حق “إيمان” وجوزها يرفضوا يوصلونا، ما هو بعد ما كنا ساكنين في أرقى مكان في البلد، بقينا أعدين في العشوائيات.

سكتت للحظاتٍ، تتأمل فيها أطنان القمامة المُلاقاة على هيئة أكوامٍ في جانبها الذي تحدق فيه من الطريق عبر نافذتها، أزعجت الرائحة المنفرة أنفها، فأغلقت النافذة، واستدارت تكلم والدتها من جديد:

-وأنا هروح الكلية إزاي؟ ده المشوار بعيد جدًا.

أخبرتها بتهجمٍ واضح على تعبيرات وجهها:

-أبوكي هيوصلك، يا إما أنا هجي معاكي، وخلاص إنتي في آخر سنة في اقتصاد منزلي، وكلها كام شهر وترتاحي من هم التعليم والمذاكرة.

لم يعطِ حديثها التقليدي أي حل لمشكلتها، فطرأ في بالها فكرة ما، لذا لم تتردد في الاستفسار منها عن مدى تطبيقها، وراحت تسألها باندفاعٍ:



-ماينفعش أفضل أعدة مع “إيمان”؟

زادت تعبيراتها وجومًا، وهتفت مستنكرة:

-وجوزها يقول عننا إيه؟ إنتي عارفاه بيت





                    الفصل الثاني من هنا