روايه فوق جبال الهوان الفصل الرابع بقلم منال سالم

         


روايه فوق جبال الهوان

الفصل الرابع  

بقلم منال سالم

 

لم تشفع لها عنده رجاواتها ولا توسلاتها ليكف أذاه عنها، بل إنه تمادى في اللعب على أعصابها، وإرهاقها معنويًا حتى نجح في استنزاف طاقات مقاومتها، إلى أن قرر التوقف عن إضاعة وقته باللهو الفارغ، واقتحـــام أراضيها بكل عنفوانٍ وجموح، وبلا هوادة.
صرخت “مروة” مستغيثة بمن ينجدها من براثنه، فكانت نبرتها بمثابة معزوفة تطرب لها الآذان، تركها تظن أنها على وشك نيل المساعدة، فأطلقت صيحة عالية:

-يا خلق هوو، الحقــــوني.
منحها ابتسامة مستمتعة، قبل أن يتحفز فجأة، وينقض على شفتيها كاتمًا صوتها بقبلة نهمة جائعة، جعلت معدتها تتقلص، ورغبتها في الذود عن نفسها تتضاعف. ضربت بقســـوة صدره بكلتا قبضتيها، وحاولت دفعه عنها لتتمكن من الابتعاد عنه أو حتى التنفس. ظل “أكرم” لبرهةٍ على تلك الحالة حتى أبعد رأسه عنها، وهذه الابتسامة اللئيمة تحتل وجهه.
حملقت فيه مذهولة، ومرعوبة، رأت كيف يبتسم لها، فارتعدت دواخلها بالكامل.
لم يرغب في انقضاء لعبة الفريسة التي وقعت في عرين الأسد بسرعة، لذلك أرخى ذراعيه عنها لتظن أنها قادرة على الفكاك منه، وتركها تركض هنا وهناك بداخل الغرفة باحثة عن المهرب المناسب، إلى أن تأهب لملاحقتها، وياليته لم يفعل!
لم يحتج إلى الكثير من المجهود ليعاود الإمساك بها ببساطةٍ، فقبض على رسغها، وجذبها إليه، ثم انحنى قليلًا للأسفل ليتمكن من رفعها على كتفه، صرخت في هلعٍ، فأخبرها بتسليةٍ:
-ده احنا لسه بنبتدي يا “سمارة”.
اسم عجيب، ووضع أعجب معه، ركلت بساقيها في الهواء، وواصلت الصراخ، لتجده يتجه بها نحو فراشه الذي يتوسط الغرفة، طرحها بقوةٍ عليه، لتهتز جوانبه الأربع، وقبل أن تستفيق من الصدمة، وجدته يعتليها، ويطبق بكله على كلها، وهو يحاول الظفر بما لا تسمح له بالمساس به.

وما هي إلا لحظاتٍ، واِنزاح ستر الروح ومن قبله غطاء الجسد، لتُرفع رايات الاستسلام قهرًا وظلمًا، ورغم التوسلات والأنين إلا أنه لم يعبأ للحظة بشأن تهشيم روحها أو حتى يندم على ما اقترف في حقها. اعتبر كل ما فيها مُحللًا له، فراح يستبيح بجراءةٍ ما لا يجوز، حتى انقضت الرغبة، وخبت الشهوة، فأصبح وجودها لا يهم.
متعة أن تكون الأول في حياة أحدهم كانت لا توصف، وهذا ما عزز شعور التفرد والانفراد لديه. تركها أقرب بجُــــثةٍ تنازع للبقاء على قيد الحياة على فراشه، تبكي في صمتٍ عاجز على فقدان أغلى ما تملك في دنياها الفانية، والتقط ثيابه المُلقاة على الأرضية ليرتديها في شموخٍ وزهو، وكأنه انتصر في معركة معروف منذ بدايتها أنه الفائز فيها، ليخرج من غرفته وبين شفتيه سيجارة أخرجها من علبة السجائر المفضلة لديه، أشعل طرفها بالولاعة، وتابع سيره في الردهة وهو يسحب نفسًا عميقًا منها، حبسه لعدةٍ لحظاتٍ في صدره قبل أن يحرر دخانها الكثيف ببطءٍ. الهدية كانت ثمينة، وتستحق صاحبتها الثناء والتقدير، فقلما مُنح ما يرضي نفسه الطامعة.
اتجه “كرم الهجام” بخطاه الثابتة إلى “عباس” الذي كان ماكثًا في موقعه بباحة بيته يعطي الأوامر لأتباعه، هب الأخير واقفًا بمجرد أن رآه مقبلًا عليه، أحنى رأسه في احترامٍ، ثم خاطبه في توقيرٍ:

-ريسنا، اتفضل يا كبير مكانك.
ثم أشار له ليجلس على مقعده الخشبي الضخم، والذي بدا أشبه بكرسي الحكم عن مجرد مقعد عادي. ألقى “كرم” بثقل جسده عليه، فراح الحاضرون يهللون لتحيته، فرد عليهم بلا ابتسامٍ، وتطلع إلى “عباسٍ” بنظرة غامضة قبل أن يأمره في صوتٍ خفيض مسموعٍ لكليهما فقط:
-عايزك تبعت لـ “توحيدة” نفحة حلوة.
فهم الأخير في التو المغزى من وراء هذه العطية الكبيرة، وصاح مهللًا وهو يصفق بيديه:
-أيوه بقى، خلي الكبير يتدلع، ومزاجه يتظبط.
لم يبدُ متحرجًا من شأن تطرقه لهذا الأمر الخاص على الملأ، وتابع إلقاء أوامره عليه في هدوءٍ، وقد انتهى من تدخين سيجارته الأولى:
-ابعت حد من حريمنا للبت “سمارة” يشوفها.
تساءل “عباس” في تحيرٍ، وهو يرمقه بهذه النظرة الغريبة:
-“سمارة” مين؟
اكتفى فقط بالإشارة بحاجبه للأعلى، ليعي مقصده المتواري، وتساءل ليتأكد مما تفقه إليه ذهنه:
-هو ده اسمها الجديد؟
أكد له بإيماءةٍ صغيرة من رأسه:

-أيوه.
استحسن قراره معلقًا بابتسامةٍ عريضة:
-يا زين ما اخترت يا ريسنا.
ضجر “كرم” من شعوره بالتعرق، وارتفاع الرطوبة في الجو، فتأهب للنهوض وهو يتكلم:
-هاقوم أغسل جسمي بالمياه، وبعدها هرجع تقولي على حوار الواد “شِحْتة” علشان هيتعلم عليه جامد.
رد في حماسٍ، وكأنه ينتظر تلك الفرصة لرد الصاع صاعين له:
-ماشي يا كبيرنا.
أثناء عودته للداخل تبعه “عباس” متسائلًا في اهتمامٍ:
-و”سمارة” هتفضل هنا؟
دون أن يلتفت ناحيته، أخبره بملامحٍ قاتمة:
-أيوه، لحد ما أزهق منها.
أبدى كعادته امتثاله التام له بترديده:
-زي ما تؤمر.
…………………………………………
لم تستطع تجاوز نظرة الخذلان المُطعمة بالحزن في عيني والدتها، وهي تودعها مع شقيقتها بعدما سمعت بوضوحٍ مشاحنتها الكلامية مع زوجها، والأسوأ من ذلك تبجحه في طردهما من المنزل بلا خجلٍ أو حياء، متناسيًا ما قامت به عائلتها من أجل تحسين مستواه المعيشي، وتسهيل انتقاله إلى هذا الحي السكني الراقي. تركت “إيمان” العنان لدموعها لتنساب في وجعٍ وهي تعد له الطعام، بالكاد كفت عن البكاء عندما رصت الأطباق أمامه، وتأهبت لتركه يتناول ما طهته بمفرده، كنوعٍ من المعاتبة؛ لكنه في غير مبالاةٍ أمسك بها من رسغها ليستوقفها متسائلًا:

-هو أنا هاكل لواحدي؟
أجابته بصوتٍ مختنق وهي تحاول انتزاع يدها من بين أصابعه:
-أنا ماليش نفس.
لم يتركها، وجذبها بقوةٍ ليجبرها على الجلوس في مقعدها مرددًا:
-خلاص خليكي أعدة معايا.
على مضضٍ جلست بجواره، ولم تنبس بكلمةٍ، فنظر إليها شزرًا قبل أن يوبخها بكلماته السمجة:
-هتفضلي لاوية بوزك كده كتير عليا؟
ردت في ضيقٍ لا يمكن إنكاره:
-عايزني أعمل إيه تاني؟ كل اللي طلبته اتنفذ.
تعمدت الإشارة إلى ما فعل، ومع ذلك لم يعبأ بحالة الاستياء المسيطرة عليها، وقال في برودٍ، مديرًا دفة اللوم تجاهها:
-طب افردي وشك، أنا مش ناقص عكننة في البيت، كفاية ضغط الشغل عليا.
رغمًا عنها لم تتمكن من تجاوز ما حدث، وتركه يمضي هكذا، فخاطبته بصراحةٍ، وبكلماتٍ مباشرة، لعله يفهم ويستوعب فداحة تصرفه المحرج لعائلتها:
-ما هو اللي حصل ده ما يصحش يا “راغب”…

دس الملعقة في جوفه، ومضغ الطعام على مهلٍ، فأضافت بنزقٍ:
-ترضى أعمل كده مع حد من أهلك؟
سعل مصدومًا من جراءتها، وهدر بها بعدما ضرب بيده بعصبيةٍ السطح الزجاجي لمائدة الطعام:
-إنتي اتجننتي؟ وأنا هسكتلك مثلًا؟
وكأنها تناولت حبوب الشجاعة، فزادت في استعتابه:
-اشمعنى أمي وأختي؟ وهما أصلًا كانوا جايين يطمنوا علينا وماشيين.
نفخ بصوتٍ مسموعٍ، وقال في سأمٍ وهو ينهض من مكانه:
-ما كفاية رغي في الحوار ده…
قامت بدورها لتجده يمنحها نظرة ازدراءٍ قبل أن يضيف بملامحٍ مكفهرة:
-حتى الأكل الواحد نفسه اتسدت عليه.
لم تتبعه، وظلت في مكانها تجمع الأطباق غير النظيفة، وتضع بقايا الطعام في صحنٍ واحد، لتسمعه يخاطبها في نبرةٍ عالية آتية من جهة الحمام:
-اعملي حسابك الفترة الجاية أنا عندي دورة تدريبية، وجايز أسافر كام يوم.

استرعى الأمر اهتمامها، فتركت ما في يدها لتتجه إليه متسائلة:
-وأنا هجي معاك؟
أشار لها بعينيه لتحضر له المنشفة، فامتثلت لأمره غير المنطوق، واستلتها من على المشجب لتعطيه إياها، جفف بها يديه، وألقاها في وجهها مرددًا بعجرفةٍ:
-هشوف، لو كان ينفع هتيجي، لو لأ، يبقى هتروحي تقعدي يومين مع أمي.
جملته الأخيرة استفزتها بدرجةٍ كبيرة، فالمكوث عند أسرته يعني تعرضها للمعانـــاة والإزعــاج طوال الوقت، ناهيك عن قيامها بخدمة الصغير قبل الكبير بلا توقفٍ، وكأنها آلة لا يحق لها البحث عن بعض الراحة والخصوصية، لهذا هتفت محتجة على اقتراحه غير المريح لها:
-وليه ما أفضلش هنا؟
قست نظراته ناحيتها بغرابة، خاصة عندما أتمت جملتها:
-أو حتى أروح عند أهلي.
جاء تعليقه هجوميًا بعض الشيء:
-بذمتك المكان اللي هما ساكنين فيه ينفع يتعاش فيه أصلًا؟

تفهمت تمنعه عن القبول بمطلبها الأخير، وأصرت على رأيها الأول:
-خلاص خليني أعدة في بيتي معززة مكرمة.
رد معترضًا على مطلبها العادي:
-وأنا مش هطمن عليكي وإنتي لواحدك.
صممت على رأيها بقدرٍ من العناد:
-وأنا مابرتحش إلا في بيتي.
لم يحبذ استمرار المجادلة في هذا الشأن كثيرًا، خاصة والأمر محسومٍ بالنسبة له، فما كان منه إلا أن أبلغها بردٍ محايد:
-لما نيجي لوقتها نبقى نشوف هنعمل إيه.
بالطبع كان يراوغها –كعادته- ليكسب وقتًا، ويوفر على نفسه عناء المناقشة، لذا ظلت تلح عليه:
-بس إنت آ…
بتر جملتها في منتصفها هاتفًا بحزمٍ، وإصبعه مرفوع في وجهها:
-هي كلمة ومش هكررها، قولتلك نتناقش في الحوار ده بعدين…
كانت على وشك الاعتراض عليه؛ لكنها ابتلعت حروف كلماتها في جوفها عندما أنذرها “راغب” بشيءٍ من التهديد:
-ومافيش داعي ننكد على بعض أكتر من كده النهاردة.

أتبع ذلك نظرة صارمة ومحذرة من عينيه وهو يضغط على عبارته الأخيرة:
-سامعة يا “إيمان”؟
لوت ثغرها قائلة بامتعاضٍ، وهذه التكشيرة الكبيرة تسود ملامحها:
-طيب.
تمطى بذراعيه، واتجه نحو غرفة النوم قائلًا:
-أنا هنام شوية، صحيني كمان ساعتين.
من ورائه رددت في خنوعٍ:
-ماشي.
ساعدته على الاستلقاء، وفردت الغطاء عليه، بعدما طلب منها إضافة وسادة أخرى ليتمكن من إراحة عنقه وهو يغفو، لتنسحب من الحجرة بهدوءٍ، وهذا الصوت الحائر يتردد في رأسها:
-أتصرف معاك إزاي بس؟!!
…………………………………
حَمِل المعنى الآخر الدارج لاسمه والمتعارف بين الجميع فيما يخص نقل الأخبار والأسرار للغير، وتحديدًا لمن يجود عليه بالمال والعطايا، في مقابل استفادة شخصية بحتة، غير مكترثٍ بتبعات جرائره الماكرة. جثا “عصفورة” على ركبتيه أمام غريم من يعمل لديه، ليبث في أذنه آخر ما لديه من معلوماتٍ قد تهمه، وكأنه بهذا يحظى بالحظوة والأفضلية عنده. حرك “العترة” مبسم النارجيلة على طرف شفته السفلى برويةٍ، ليستطرد بعدها متسائلًا، ونظرة تفكير عميقة تظهر على وجهه:

-يعني العاركة دلوقت بقت مع الواد “شِحْتة”؟
أومأ برأسه مؤكدًا الأمر:
-أيوه يا معلم.
ارتسمت ابتسامة عريضة على ثغره، أتبعها قوله المستحسن:
-زي الفل.
أضاف “عصفورة” مجددًا، في شيءٍ من النصيحة:
-عارف يا معلم لو خدت الواد ده تحت جناحك، صدقني هتكسب جبهة جديدة تساعدك في حربك ضد حبيبك.
استمر “العترة” في هز رأسه باهتزازات صغيرة قبل أن يعقب:
-مظبوط، ما هو الكترة تغلب الشجاعة، وأنا عايز أجمع معايا رجالة على أد ما أقدر، وخصوصًا إن “الهجام” دماغه سم، ومش سهل.
تحفز “عصفورة” في جلسته المتواضعة عندما أُلقي في حجره حفنة من النقود، جمعها بلهاثٍ متلهفٍ، وصاحب الفضل عليه يشدد عليه:
-خد دول ياض، ولو في جديد، مش هوصيك.
أبدى طاعته التامة له بتأكيده غير المشكوك فيه:
-طبعًا، زي تملي يا معلم الناس كلهم.
تبادل معه المنفعة، المعلومة مقابل المال، ولا يهم كم يدفع من أجل الإيقــاع بخصمه، فالبقاء هنا للأقوى، وهو يريد أن يصبح صاحب الكلمة العليا والوحيدة في هذا العالم المعزول عن الحضر. بصوته المتحشرج حمحم “العترة” في لهجةٍ شبه آمرة:

-يالا أوام قبل ما حد ياخد باله منك.
دس “عصفورة” المال الذي حاز عليه جراء خيانته في جيبي بنطاله الجينز القديم والممزق، وهتف وهو ينهض واقفًا:
-فوريرة.
مثلما جاء في الخفاء، اختفى دون أن يتمكن أحدهم من رصــد حركته أو اكتشــاف خسته، ليعود إلى التَبَّة العالية وكأن شيئًا لم يكن.
………………………………….
قيل أن المال هو المحرك الأساسي لكل شيء وأي شيء يطمح الإنسان في حدوثه، لهذا بمجرد أن تلقى “كيشو” ذلك المبلغ الإضافي بعد يومين من مقابلة “فهيم” سعى لمقابلة أحد رجــال “الهجام” في مقهاه الذي اعتاد الجلوس فيه. انتظر قيام الصبي بتقديم كوب الشاي له، ومغادرته لأداء عمله ليخاطبه في صوتٍ خافت نسبيًا:
-دي قرصة ودن صغيرة، مش حاجة كبيرة.
زم شفتيه معترضًا:
-بس إنت عارف إن اللي تبع “العترة” بيجي منه عوأ، مش بس قرصة ودن.
حاول الضغط عليه بطريقة ماكرة، فسأله:
-يعني يرضيك حق الناس يضيع ظلم؟

نفى في تجهمٍ:
-لأ، بس أنا مش ناقص مشاكل مع الكبير، وإنت عارف زعله.
أشار “كيشو” بيده شارحًا:
-احنا هنخوفه بس، يقوم يلم الدور شويتين، وفي نفس الوقت هنسترزق.
ثم أخرج من جيبه حفنة من النقود المطوية، وضعها جبرًا في راحته، ليضم قبضته عليها وهو يحك جبينه معقبًا بعد لحظاتٍ من الصمت:
-طيب سبني أدور الحكاية في راسي، وبعد كده هشوف هعمل إيه.
هز رأسه مرددًا:
-ماشي الكلام، وأنا من جهتي هطمن الراجل.
دس المال في جيب بنطاله مشددًا عليه:
-ماتدلوش كلمة أخيرة إلا لما أحسبها صح.
أرجع ظهره للخلف ليقول باسمًا:
-اتفقنا، اشرب الشاي.
وأمسك بعدها بكوبه الزجاجي ليتجرع ما فيه على فمٍ واحد، قبل أن ينظر أمامه ليحدق في المارة بنظرات عابرة.
………………………………
نضبت ما لديها من حيل من أجل الحصول على أي معلومة تطمئنها على رضيعها المفقود، ففكرت في استدراج “حمص” بما اعتادت ممارسته، لتستخرج منه –تحت تأثير نشوة المتعة- أي شيء يخمد نيران اللوعة المتأججة في صدرها؛ لكنه لم يكن من النوع الذي يستهوي تلك العلاقات النجـــسة، خاصة مع من اعتدن ملاقاة أكثر من رجل دون حياءٍ أو خجل، ومع هذا لم تيأس، ولجأت إلى طريقة أخرى، التصعَّب وإظهار الضعف والعوز، ربما لحازت على اهتمامه، وكانت تلك الطريقة الأكثر صدقًا، والأكبر تأثيرًا عليه.

عاونته “وِزة” وهو ينقل كعادته كل بضعة أيامٍ ما قام بابتياعه من طلبات إلى داخل المطبخ، وأراحت يدها على كتفه تسأله في وداعةٍ:
-بالله عليك يا سي “حمص” ما تعرفش حاجة عن ابني.
نظر إلى موضع يدها على كتفه، فأكملت بنفس النبرة المستعطفة:
-ده الضنا غالي، وحرقة القلب وحشة.
أبعد يدها عنه مرددًا بجمود:
-ماليش فيه الحوار ده.
وهمَّ بالتحرك خارج المطبخ؛ لكنها سبقته في خطاها، واعترضت طريقه قائلة بنظرة حزنٍ لم تبذل أي جهدٍ في تزييفها:
-إزاي بس؟ ده إنت من غيرك مافيش حاجة تمشي.
طالعها بتحيرٍ، فتابعت على نفس النهج متوسلة عاطفته:
-بالله عليك ما تكسر بخاطري، قولي أي حاجة تريح بالي.
زفر عاليًا، وأخبرها وهو يشير بيده:
-حوارك ده شوفيه مع “سِنجة”، وده تمامي فيه.
أمسكت بكفه، وقبلته في امتنانٍ، قبل أن تشكره:
-كتر خيرك، ربنا ما يوقعك في ضيقة.

سرعان ما استل يده من بين أصابعها عندما اقتحمت “خضرة” المطبخ فجــأة، وهي تتساءل في فضولٍ، وهذه النظرة الغريبة تدور على كليهما:
-بترغي فيه إيه ده كله يا بت؟
استدارت ناظرة إليها، لترد نافية بارتباكٍ طفيف:
-ولا حاجة يا “خضرة”.
أمرتها بحزمٍ، وهذه النظرة المتشككة تعلو وجهها:
-طب روحي غيري الملايات اللي في الأوض، وحطي الجديد مكانها.
ابتسمت، ومع ذلك ظهرت ابتسامتها مهزوزة، وانتفضت مسرعة نحو الخارج وهي تخبرها:
-عينيا.
ظلت “خضرة” باقية للحظاتٍ تراقب “حمص” بعينين حادتين، ثم دنت منه لتهمس له في شيءٍ من النصيحة:
-ابعد عن البت دي يا “حمص”، الست “توحيدة” لسه معلمة عليها، وإنت مش ناقص إنها تحطك في دماغها، دلوقت الكوبارة موجود، وما بيسكتش عن حد غلط.
تغير لون وجهه قليلًا، فتابعت تحذيرها الجاد إليه:
-وإنت أكيد مش عايزه يزعل منك.
تصنع الجدية، وقال في عبوسٍ:

-أنا أخري أقضي طلباتكم وبس.
قوست شفتيها عن ابتسامة خبيثة وهي تمتدحه:
-تعجبني.
أخرج من جيبه ورقة مطوية، ثم مد يده بها ناحيتها قائلًا:
-ودي فاتورة الحساب.
التقطتها منه قائلة بتدللٍ وهي تضرب على صدره بخفةٍ:
-هجيبلك الفلوس من الست “توحيدة” يا عينيا.
شيعها بناظريه وهي تنصرف بغنجٍ قاصدة إبقاء عينيه عليها، ورغم أنها لم تره فعليًا وهو يفعل ذلك إلا أنها استشعرت نجاحها في هذا.
……………………………
مثل كل يومٍ، تتعرض للرفض من قِبل سائقي سيارات الأجرة، ممن يستبعدون المسافة، أو يحتجون على الأجرة غير المناسبة للوقود الذي يحترق بلا فائدة من أجل توصيلها إلى عنوان سكنها البعيد، ناهيك عن رفضهم الأساسي المرور في الشوارع الضيقة، والأزقة الخانقة حتى تصل إلى ناصية شارع عمارتها.
هذه المرة تطاول عليها أحد السائقين بالسباب اللاذع والكلمات النابية رغم إعطائها لأجرته، فقد اعتبر ذلك المبلغ قليلًا، لا يكفي لوقته ومجهوده اللذين ضاعا عليها فقط، ورفضت منحه أي مبلغ إضافي، لتأتي نتيجة ذلك بتعرضها للإهانة الفجة.

ندمت “دليلة” لأنها تجنبت الشجار معه، وظلت تبرطم في حنقٍ إلى أن ولجت لداخل منزلها، فواصلت التذمر بسخطٍ:
-احنا عايشين في مستنقع، مش مكان طبيعي للبشر.
نزعت عن قدميها حذائها، ووضعته في الخزانة المخصصة للأحذية، لتستمر في شكواها:
-كويس إن محاضراتي متجمعة في يومين، وإلا مكونتش عارفة هستحمل إزاي سخافة السواقين وأنا بسترجاهم يوصلوني لحد هنا.
ردت عليها أمها وهي تلمع سطح طاولة الطعام الزجاجي بخرقةٍ قديمة:
-ربك يهون ونعزل من هنا.
أمنت عليها برجاءٍ كبير:
-يا ريت والله.
حانت من “عيشة” نظرة مهمومة نحو ابنتها، وراحت تتحدث إلى نفسها بلا صوتٍ:
-لو مكانش “راغب” بس هيزعل أختك، كنت زنيت عليه تفضلي معاهم.
انتشلها من شرودها السريع صوت قرع جرس الباب، فأمرتها:
-شوفي مين على الباب يا “دليلة”.

ردت بإيجازٍ وهي تحكم من جديد لف طرفي حجابها بعدما حلته:
-طيب.
ما إن أدارت المقبض، وفتحت الباب، وتفاجأت بوجود جارتهم السمجة حتى تبدلت قسماتها للامتعاض، ونظراتها للانزعاج، فقالتٍ بجمودٍ:
-أهلًا يا طنط.
شهقت “دليلة” حينما وجدتها تجذبها دون سابق إنذارٍ إلى أحضانها، لتضمها بقوةٍ، ومتعمدة أيضًا في نفس الوقت تمرير يديها على طول ظهرها، وكأنها تجري عليها فحصًا من نوعٍ ما، لتستطرد في ألفةٍ عجيبة تناقض كليًا عمق الجيرة بين العائلتين:
-يا مرحب بعروسة الحتة…
تراجعت “إعتدال” عنها لتتابع كلامها إليها في أسفٍ مصطنع:
-عارفة إنتي لو تتخني شوية هتبقي مدورة والكل هيحط عينه عليكي.
أتت أمها كنجدةٍ من السماء، فجذبتها من ذراعها للخلف، وأمرتها في لهجةٍ مزعوجة:
-خشي جوا يا “دليلة” طبقي كوم الغسيل.
في التو أطاعتها، وهربت من تحت أنظار هذه الجارة السخيفة اللزجة:

-حاضر يا ماما.
أشارت “عيشة” لضيفتها الطفيلية المتطفلة عليها بيدها تدعوها للدخول وهي تخاطبها:
-اتفضلي يا ست “إعتدال”.
استخدمت نفس الطريقة في الترحيب بها، قبل أن تجلس على الأريكة وترد في استظرافٍ زائد:
-تعيشي يا حبيبتي، أنا لاقيت نفسي فاضية، وما بعملش حاجة، قولت أجي أقعد معاكي شوية أشوف أحوالك إيه.
بجديةٍ وجمود ردت عليها “عيشة”، محاولة إفهامها بشكلٍ أو بآخر بأن أسرتها لا تحبذ هذه النوعية من العلاقات الزائدة عن الحد:
-احنا معندناش حاجة تتقال، أعدين في حالنا، وكافيين خيرنا شرنا.
وكأنها لم تقل شيئًا، فقد جاءت لمهمة محددة، استطلاع الأخبار، وجلب المعلومات التي تتناقلها مع بقية المعارف والجيران، ليجدوا ما يتشاغلون به طوال فترة نهارهم الطويل، فسألتها في فجاجةٍ:
-أومال فين المحروسة بنتك البكرية؟ إني ما شوفتها ولا مرة هنا!
ثم مالت ناحيتها لتسألها وهي تضيق نظرتها اللئيمة تجاهها:

-ولا تكونش مستعرية من المكان؟ احكيلي وفضفضي، ده أنا زي أختك، وبعدين سرك في بير.
استنكرت بشدة وقاحتها، وتحدثت إليها في رسميةٍ واضحة:
-بنتي بخير يا ست “إعتدال”، بس أعذريني رجل البيت عايز طلباته تتعمل، وأنا معنديش وقت أضيعه في الرغي والحوارات.
تصعبت بشفتيها مبدية نقمها على صدها لها، ورددت في غير رضا:
-أها.. قولتيلي.
تحولت نظرات الاثنتين تجاه باب المنزل عندما فتحته “فهيم” ليدخل ملقيًا التحية:
-سلام عليكم.
اندهش من وجود إحداهن بصالة المنزل، فتساءل بتلقائيةٍ:
-احنا عندنا ضيوف يا “عيشة”؟
قهقهت “إعتدال” ضاحكة بسخافةٍ وتصنع، قبل أن تنهض بتكاسلٍ من موضع جلوسها لترد عليه:
-ضيوف إيه بس يا حاج؟ ده أنا جارتكم “إعتدال”، إنت مش واخد بالك مني ولا إيه؟
هز رأسه معقبًا، وقد لاح على ثغره بسمة باهتة:
-شرفتينا…

ثم التفت ناظرًا إلى زوجته يعاتبها:
-معقولة يا “عيشة”، ما جبتيش حاجة لجارتنا لسه، ما يصحش كده!
قبل أن تجيب زوجته، تولت عنها الكلام مرددة بتطفلٍ مزعج:
-ما أنا مش غريبة يا حاج، ده أنا يعتبر في بيتي يعني.
رد مجاملًا:
-أكيد طبعًا.
شعرت “عيشة” بالانزعاج من وجودها، ومع هذا لم ترغب في التعامل معها بوقاحةٍ، لئلا تتسبب في مشكلة من لا شيء، تبعاتها قد تأتي بما لا يحمد عقباه، خاصة مع جارة كتلك، لا تستحي من ادعاء الباطل على أحدهم انتقامًا فقط منه. تنبهت لصوتها عندما قالت:
-هسيبك تاخد راحتك، وهعدي وقت تاني على “عيشة”، أصل أنا حبيتها أوي.
باقتضابٍ مشوبٍ بالاحترام تكلم “فهيم” وهو مخفض لعينيه ورأسه:
-تنوري.
تجاوزته لتتجه نحو الباب وهي تردد:
-فوتكم بالعافية.

تبعتها “عيشة” قائلة كنوعٍ من المجاملة:
-تسلم رجليكي يا حبيبتي.
التفت “إعتدال” ناحيتها، وافتعلت الضحك قبل أن تخبرها:
-عايزة المرة الجاية أدوق عمايل إيدك بقى.
وكأنها تضع لها العراقيل لتزعجها أكثر، فقبلت على مضضٍ بتحديها المتواري:
-طبعًا، ده أنا هستنى رأيك.
صرفتها بأعجوبةٍ من بيتها لتغلق الباب مدمدمة في سخطٍ كبير:
-أعوذ بالله من دي ست، حِشرية بدرجة فظيعة.
زفرت في نفورٍ، واتجهت إلى زوجها الذي جلس على الأريكة شاردًا، فسألته في تحفزٍ:
-مافيش جديد في موضوع الفرن؟
لم ينظر ناحيتها وهو يجاوبها:
-لأ لسه.
انتقلت بإلحاحٍ إلى سؤالها التالي:
-طب ما فوتش على الراجل اللي اسمه “درويش” تتكلم معاه تاني؟
أوجز في رده المتجهم:
-لأ.
ضاقت ذرعًا مما اعتبرته تكاسلًا منه، وصاحت في غير صبرٍ:

-أومال بتعمل إيه كل يوم يا راجل؟ طول النهار برا، ومافيش جديد خالص.
هذه المرة أدار وجهه تجاهها لينظر إليها مليًا، بماذا يخبرها بالضبط وهو يبدو عاجزًا عن فعل أي شيءٍ بمفرده؟ ما زال ينتظر على أحر من الجمر قبول “كيشو” بتقديم العون له في هذه المسألة، فإن –لا قدر الله- رفض، لبات في وضع أصعب، حاول ألا يفكر بسلبية، وتعمد تغيير الموضوع بقوله غير المبالي:
-خلي “دليلة” تعملي شوية شاي.
فغرت شفتيها متسائلة باستهجانٍ:
-هتشرب شاي قبل ما تاكل؟
في قدرٍ من الانفعال رد:
-أه يا “عيشة”، عندك اعتراض؟
لوت ثغرها قائلة:
-لأ.
نهض بعدها متجهًا إلى الشرفة ليتطلع إلى الطريق الضيق المزدحم بالمارة والدراجات، ومركبات التوكتوك. أخرج تنهيدة ثقيلة من صدره مُحادثًا نفسه في يأسٍ وإحباط:
-هعمل إيه لو معرفتش أجيب حقي؟
……………………………………

على عكس طبيعة شقيقه المتباهية، والداعية للفت الأنظار، كان “زهير” يحب العمل في هدوء، والتحرك بلا أدنى صخب أو ضوضاء، وكأن في التخفي عن الأعين لذة عجيبة، لذلك لم يبدُ راضيًا تمامًا عن الحشد الذي وقف في انتظاره خارج أسوار السجن، تمهيدًا للاحتفاء به بعد انقضاء مدة حبسه.
تقدم “شيكاغو” تجاهه، ليستقبله ويرحب به، فهتف في حماسٍ فرح وهو يشير بيده للفرقة الموسيقية الشعبية التي أتت بصحبته لتبدأ في العزف الصاخب:
-الكوبارة بنفسه باعتنا ليك يا سي “زهير”.
أمر الجميع بلهجة الآمر الناهي:
-مش عايز أسمع دقة طبلة، ولا صوت مزمار.
سادت الحيرة بينهم، فأكمل على نفس الوتيرة الصارمة:
-أنا مابحبش الحركات دي، وبقول من تاني مش عايز لا زفة، ولا مولد، الكل يرجع من مطرح ما جه.
معارضته لم تكن إحدى الخيارات المتاحة، لهذا صفق “شيكاغو” بيديه للجميع حتى يمتثلوا لأمره، وينصرفوا تباعًا، ثم التفت ناظرًا إليه قبل أن يردد:

-كل اللي أمرت بيه اتنفذ يا ريس “زهير”.
تقدم بعدها تجاه إحدى السيارات، فتح الباب الأمامي، وجلس مجاورًا لمقعد السائق، ليأمر الأخير بتعابيرٍ جادة للغاية:
-اطلع على التَبَّة.
هز رأسه في طاعة قبل أن يدير المحرك متمتمًا:
-ماشي يا كبير.
انطلقت السيارات المنتظرة خلف بعضها البعض في تتابع صامتٍ نحو الطريق الرئيسي المؤدي إلى ذلك المكان القصي، لتبدأ فترة جديدة –ربما تكون عصيبة على البعض- حينما تتضافر جهود الشقيقين معًا من أجل تدعيم نفوذهم وسلطتهم على من يقطنون منطقتهم وضواحيها




                   الفصل الخامس من هنا 



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-