روايه قلبي موجوع
الفصل الثاني 2
بقلم نجلاء لطفي
ساد الصمت بيمنا للحظات ثم قلت:
-ممكن نخلص موضوع الطلاق ده في أسرع وقت؟
-بكرة مثلا؟
-ياريت
-اتفقنا الصبح نروح للمأذون
-نصيحة مني بيع الشقة دي وابعد عن المنطقة دي وابدأ من جديد في مكان تاني مع ناس تانية
تركته وذهبت لحجرتي و مر علي شريط ذكرياتي منذ أن كنت طفلة صغيرة في بيت فقير لأب يعمل كساعي في مصلحة حكومية، وأم ربة منزل مع أخ وأخت يصغرونني. كانت حياتنا بسيطة جدا تفتقر الكثير من الضروريات لكننا كنا مستورين، ولقوة شخصية أبي وحسن تدبير أمي لم أظن أن حياتنا يمكن أن تتغير. كانت خالتي قد انتقلت لتعيش في الشقة المجاورة لنا بعد وفاة زوجها ليشملها أبي برعايته فهي ليست أخت زوجته فقط بل وابنة عمه أيضاً، وكان معها ابنها أشرف الذي يصغرني بعام وقد غمرته بحبها وحنانها لتعوضه غياب أبيه، فصار طفلا مدللا كنت أحميه أنا وأخي حسن الذي يصغره بعامين عندما يتشاجر معه الصبية في الحي أو المدرسة، لم اعتبره يوما إلا أخ كحسن. مرت بنا الأيام بحلوها ومرها حتى ذات يوم وأنا في العام النهائي للدبلوم الصناعي فوجئت بوفاة أبي وكان علينا أن نواجه الحياه بلا ظهر ولا سند ولا حتى مال غير جنيهات قليلة لا تسد سوى الإيجار والكهرباء وعلينا أن ندبر أمرنا في احتياجاتنا. عرضت على أمي ترك الدراسة فرفضت وأصرت على أن أكمل الشهور الباقية من دراستي حتى احصل على الدبلوم وبدأت هي رحلة العمل في البيوت، أما حسن فأصر على العمل في الأجازة وكان على حياة أختي الصغرى بالصف الاول الإعدادي أن تقوم بشئون البيت.
كان علي أن أبذل كل جهدي للحصول على الدبلوم لأجد عملا جيدا بدخل مناسب وأريح أمي من العمل وأوفر المال ليكمل حسن وحياة تعليمهما، هكذا كانت أحلامي البسيطة، لكن عندما واجهت الواقع تحطمت واكتشفت أن راتبي من العمل في كوافير حريمي مع الإكراميات لا يكفي سوى لنفقات تعليم حسن وحياة أما نفقات الطعام والملابس والمواصلات كانت تتكفل بها أمي من عملها الذي أصبح ضرورة لنعيش بجوار معاش أبي الضئيل الذي يكفي بالكاد إيجار البيت وفاتورة الكهرباء .حمدت الله ان عملي كان يتطلب ارتداء زي موحد لكل العاملات فوفر ذلك علي بند الملابس وستر ملابسي المهترئة، كما كنت اكتفي بتناول وجبة الإفطار والعشاء مع أسرتي حتى لا انفق مالا في تناول الطعام مع زميلاتي وكنت أدعي أني أحافظ على وزني وقد ساعدني على تلك الكذبة جسدي الممتلئ بطبيعته رغم قلة وجباتي وفقرها غذائياً، لكن يبدو أن تلك الوجبات المعتمدة دائما على الطعمية والباذنجان والبطاطس المقلية كان يزيد من وزني، لكن ذلك لم يكن عائقا أمام تواصلي مع الناس فقد حباني الله قبولا بين الناس وربما يرجع ذلك لملامحي البسيطة فبشرتي خمرية وعيوني سوداء واسعة برموش طويلة وكثيفة وشعري أسود ناعم وطويل لكني دائما أجمعه على شكل ذيل الحصان او كعكة. كانت ملامحي لا تخلف عن ملايين المصريين،فلم يكن بي شيئا يميزني عن غيري لكني كنت دائما ألاحظ نظرات الرجال تلتهم جسدي ولا أعرف لذلك سببا ولكني أدركت أن امتلاء جسدي هو السبب فكنت أخجل منه وأحاول إخفاؤه بملابس واسعة. تقدم لخطبتي العديد من أبناء الحي لكنهم جميعا كانوا يرفضون عملي وإنفاقي على أسرتي فرفضتهم حتى لا أترك أمي تئن تحت عبء إخوتي وحدها وحتى لا يترك حسن المتفوق دراسته ليشاركها في مسئولية البيت.
استمرت حياتي على منوال واحد أعمل باجتهاد وأحاول كسب الزبائن لأحصل على إكراميات أكثر، وكانت مدام كوثر صاحبة المحل إمرأة طيبة رغم شدتها فكانت تحسن معاملتي واستطعت نيل ثقتها سريعا لأني رفضت أن أسرق زبائن المحل وأذهب لهن بيوتهن دون علم مدام كوثر كما تفعل معظم الفتيات، كما نلت ثقة الزبائن فكن يطلبنني بالإسم سواء داخل المحل أو خارجه مما أثار غيرة العاملات وحاولن الوشاية بي لدى مدام كوثر عدة مرات لكن الله كان معي في كل مرة.
كنت أعمل حتى في يوم أجازتي حتى أستطيع تدبير احتياجاتنا و القليل الذي يتبقى معي كنت أشتري ببعضه ملابس جديدة بدلا من ملابسي المهترئة، كما كنت أدخر جنيهات قليلة في دفتر توفير البريد الذي نصحتني مدام كوثر بفتحه لأضع به الإكراميات واكتفي براتبي لسد احتياجات الأسرة.
ورغم اعتدال الحالة المادية لخالتي إلا أن أمي كانت ترفض تماما أن نقترض من أي شخص حتى خالتي، فكانت خالتي تصر أن نتناول معها الغداء يوم الجمعة فكانت تصنع لنا الأصناف التي نشتاق إليها وتحرمنا منها حالتنا المالية، وإن لم أحضر الغداء بسبب عملي كانت خالتي ترسل لي نصيبي عندما أعود مع أشرف الذي يجلس معنا لنتبادل الأحاديث عن أحوالنا جميعا فلم يكن بالنسبة لي أكثر من أخ تربينا وكبرنا وحلمنا معا .
مرت الأيام بحلوها ومرها وقسوتها التي طحنتنا ولكننا واجهناها بالصبر واليقين بأن الله سيغير حالنا للأفضل وبالبكاء أحياناً وبالسخرية أحياناً، ورغم كل متاعبنا بدأ شعاع الشمس يبدد ظلمات الليل عندما نجح أخي في الثانوية العامة بمجموع يؤهله لدخول كلية صيدلة أو علاج طبيعي لكنه رفض لأن تلك الكليات سنواتها كثيرة ومصاريفها باهظة فأصر على دخول كلية التجارة ليستطيع أن يعمل ليساعدنا في نفقات البيت ويريح أمي التي أنهكتها المشاكل والمصاعب أكثر من العمل ، أصر حسن على رأيه رغم معارضتي أنا وأمي فقال لنا:
-أنا راجل البيت وكنت المفروض أشيل الحمل عنكم لكن إلهام ضحت وشالت عني نجلاء لطفيعاكي يا أمي فما أقدرش أكون أناني وأسيبكم تشيلوا حملي ٥أو٦ سنين كمان
فقالت أمي:
-بس يا حبيبي كان حلمك تبقى دكتور وأنا على استعداد أستحمل كام سنة كمان وتحقق حلمك
-كده هابقى أناني يا أم حسن لما أحقق حلمي على حسابكم ، وبعدين أنا ممكن أكون أحسن من أي دكتور ببركة رضاكي يا أمي
-ربنا يرضى عنك يا ابني
فقالت حياة:
-كفاية أفلام درامية وتعالوا كلوا الأكل هيبرد
فقال حسن مشاكسا لها:
- عارفه يا أم حسن أحلى حاجه في الحكاية دي انك هترحمينا من العك بتاع حياة
-أنا باعمل عك؟ طب مافيش مسقعة النهاردة
فقلت لهم :
-بطلوا مناكفة وتعالوا ناكل عشان عندي شغل كتير النهاردة
فقال حسن:
-خفي على نفسك شوية
-لما تشتغل ان شاء الله هاخف الشغل شوية
كنت أعلم أني أكذب عليه فمازالت حياة في دبلوم سياحة وفنادق وتحتاج لمصروفات ودروس وملابس تتلائم مع طموحاتها التي بلا حدود وكأنها لا تعيش معنا ولا تشعر كم نشقى حتى نحقق الحد الأدنى من احتياجاتنا الأساسية، إنها تعيش في عالم الخيال وتتطلع لحياة المشاهير ونجوم الفن وتحلم أن تحيا مثلهم وكان يساعدها على ذلك لمحة من جمال فهي خمرية البشرة بعيون عسلية فاتحة تميل للون الأخضر وشعر بني مجعد وقوام رشيق متناسق مع طولها، كنا يساعدها ذكاؤها وهو ليس ذكاءا دراسيا إنما ذكاء اجتماعي حيث كانت تصادق دائما من هن أغنى منا وتتقرب منهن فتدخل بيوتهن وتحضر مناسباتهن وتتعامل مثلهن بل وتجعلهن دائما في حاجة لها فهي تجيد كلا من الطهي والحياكة – التي تعلمتها من أمي- كما أنها محبوبة من كل المعلمين فتحصل بذكائها على أعلى الدرجات وترفع عن زميلاتها الغياب أو العقاب كثيرا ، فكانت شخصية متميزة بينهن وحرصت على ذلك التميز فكانت دائما تقول لهن:
-محدش فينا أحسن من التاني احنا أصحاب وبيننا مصالح متبادلة ، يعني زي ما بتعملوا لي حاجه باعمل لكم قصادها حاجة
فلم تترك لإحداهن الفرصة لتتعالى عليها بمالها ، بل كانت هي من تتعالى عليهن بجمالها وتعدد هواياتها وشخصيتها الجذابة للجميع. كنت أخشى عليها من طموحها وتطلعها لما ليس بيدها، وفي نفس الوقت كنت أحسدها أنها استطاعت أن تطوع ظروفنا لتخدمها فلم تكسرها كما فعلت بي، نعم كان هناك جزء من روحي مكسور ، كنت أشعر دائما بالدونية وأتملق الجميع خوفا من طردي من العمل، كنت أتحمل إهانات وتكبر وغرور من كثيرات ثم أتقبل منهن الإكرامية وأنا مبتسمة وممتنة. كم كنت أتمنى أن أكون مثل حياة معتزة بنفسي وأقول لهن:
-أنا إنسانة زيكم وظروفي هي اللي خلتني أشتغل الشغلانة دي وزي ما أنا محتاجة لكم انتم كمان محتاجين لي فبلاش تكبر وغرور
لكن ظلت الكلمات حتى الآن حبيسة صدري ولا أجرؤ على البوح بها